الأربعاء، 26 مايو 2010

الانتظار الأخير


لم يعد يتكلم كثيرا منذ أن  بدأ يزحف على جسده هذا الشبح الذى يسمى المرض ,
إبتسم له فى ثقة وإستسلم لقبضة الإله وإرادته التى فرضها على البشر ,
فى الماضى كان الموت بالنسبة له مجرد لغز  يتداوله الكبار , ثم صار  زيارة أبدية إلى السماء  لأولائك الناس الذين  يختفون ويحملون لقب متوفى
هكذا أخبرته والدته عندما سألها  عن والده الذى أختفى من حياته فجأة
- راح فوق عند ربنا
وعندما كبر قليلا أصبح الموت مجرد لعبة يؤديها بإتقان كما شاهد فى المسلسلات والأفلام حين يلعب مع  صغار الحى لعبه "بوليس وحرامى " وكان يحب دوماأن يؤدى  دور الضابط الذى يموت دفاعا عن الناس وهو يطارد اللصوص
ومرت الأيام وكبر فأصبح يعلم أن الموت حقيقة , لكنه لم يتصور أبدا نفسه أنه فى لحظة من اللحظات سيصبح فى مواجته ثم يصبح رقيد قبرا مظلما وحيدا خائفا مذلولا يأكله الدود
نعم هو  إنسان له قلب أبيض لكن له أخطاء
قال يوما لصديقه " انا معملتش شئ غلط يدخلنى النار , مشكلتى انى مش بعمل شئ صح يدخلنى الجنة "
هكذا مرت حياته فجأة فاكتشف انه اصبح فى الثلاثين , وشريط حياته الطويل مجرد ذكريات وصور فوتوغرافية حفرت فى ذاكرته  ولا شئ بعد ذلك
قال فى حسرة وهو يروى لصورة صديقه الوحيد الذى توفى وهو ابن العشرين
" عارف انا عمرى ما اتنصفت فى قصة حب فى حياتى , علشان كدا متجوزتش , هع أنا جيت هنا وحيد وهمشى وحيد , هخاف ليه بقى لما أعيش وحيد أو أموت وحيد "
وكان دوما صديقه ينظر إليه ولا يتكلم
تعرض لمواقف كثيرة محزنة تمنى الموت عندها .. فكر فى الانتحار لكنه لم يمتلك الشجاعة التى تدفعه لينفذ هذه الخطوة , ولأنه رغم كل شئ كان يحب الحياة وكان يرى أن الانتحار ضعف وهو ليس ضعيف وكان دوما يخاف النار التى تنتظر المنتحرين"
وفى كل مرة قرر ان يحارب مثل فارس يطعن ويقطع لكنه يستمر يكافح حتى يسقط
وعندما يسقط ربما يتذكره من نسوه .
فى هذا المساء أخبره الطبيب بالأمر
اغرورقت عيناه بالدموع , اعتقد انه يحلم , ضحك فى هستريا , ثم بكى , بكى بشدة
الآن سيموت , الآن سيذهب لرحلة أخرى وحيدا , شعر بالخوف , شعر بالموت دون موت
تمنى أن لو لم يخلق , ان لو لم يجئ إلى هنا أساسا
صرخ بداخله لماذا يارب تتلاعب بنا , لماذا جئت بنا إلا هنا مادمنا سنرحل
- استغفر الله فى سره , استغفره كثيرا وندم
ثم عاد من جديد يتذكر كلمات الطبيب هو يحاول ان يؤدى دورا حزينا ومصطنعا  وهو  يخبره بالحقيقة أسفا :
أنا مضطر أقولك   .. للأسف الحالة اللى عندك متأخرة جدا ومالهاش علاج
هتستمر تعانى فترة وبعدين ....
كل شئ بأمر الله  "
مرت عليه الأيام بطيئة جدا وهو يرى المرض يزحف على جسده النحيل ويفترسه
تغير شكله , ذبل , ونحل , لكنه ظل مثابرا ومقاوما يتحرك كى يقضى حاجته , ويجلس يشاهد التلفاز ويحضر له الطعام
" أيها الموت اللعين لم أعد أخافك , إنى أنتظرك وأنتظر جبنك الذى لم يمنحك القوة كى تظهر أمامى , لأنك لو ظهرت لقتلتك قبل أن تقتلنى "
ثم يعود ويضحك فى هستريا وتدمع عيناه
كلمات المعارف المواسية جاءت باردة وجافة وروتينيه
جلس يتذكر  فيضحك تارة ويبكى أخرى
أول بنت أحبها و هو  فى المدرسة الابتدائية , تذكر أشياء كثيرة يحتفظ بها المرء حتى موته
تذكر كلمات صديقه " فى حياة كل واحد سر بيستمر  معاه لحد مايموت "
وابتسم وهو يقول " أنا عندى اسرار كتير هتموت معايا ياصديقى "
" يارب انا معرفش انا كويس ولا وحش بس انا ليا اخطاء , بس انا عمرى ما أذيت حد , وعمرى ما اتجوزت حدودى مع حد , لا قتلت ولا نهبت ولا نصبت ولا عملت كبيرة من الكبائر , بس ذنبي أنه كان ليا قلب بيهوى ويتمنى  "
هكذا كان يناجى الله وهو ينتظر الضيف القادم
لقد قضى حياته كثيرا فى الانتظار , وهاهو مازال  ينتظر ................
                                          
                                                                                                   ashraf maklad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق